فصل: سورة المرسلات

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


سورة القيامة

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 2‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ‏(‏1‏)‏ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ قرأ القواس عن ابن كثير‏:‏ ‏"‏لأقسم‏"‏ الحرف الأول بلا ألف قبل الهمزة‏.‏ ‏{‏وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ‏}‏ بالألف، وكذلك قرأ عبد الرحمن الأعرج، على معنى أنه أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس ‏[‏اللوامة‏]‏ والصحيح أنه أقسم بهما جميعا و‏"‏لا‏"‏ صلة فيهما أي أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة‏.‏

وقال أبو بكر بن عياش‏:‏ هو تأكيد للقسم كقولك‏:‏ لا والله‏.‏

وقال الفرَّاء‏:‏ ‏"‏لا‏"‏ ردّ، كلام المشركين المنكرين، ثم ابتدأ فقال‏:‏ أقسم بيوم القيامة وأقسم بالنفس اللوامة‏.‏

وقال المغيرة بن شعبة‏:‏ يقولون‏:‏ القيامة، وقيامة أحدهم موته‏.‏ وشهد علقمة جنازة فلما دفنت قال‏:‏ أما هذا فقد قامت قيامته‏.‏

‏{‏وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ‏}‏ قال سعيد بن جبير وعكرمة‏:‏ تلوم على الخير والشر، ولا تصبر على السراء والضراء‏.‏

وقال قتادة‏:‏ اللوَّامة‏:‏ الفاجرة‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ تندم على ما فات وتقول‏:‏ لو فعلت، ولو لم أفعل‏.‏

قال الفراء‏:‏ ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيرا قالت‏:‏ هلا ازددت، وإن عملت شرًا قالت‏:‏ يا ليتني لم أفعل قال الحسن‏:‏ هي النفس المؤمنة، قال‏:‏ إن المؤمن - والله - ما تاره إلا يلوم نفسه، ما أردت بكلامي‏؟‏ ما أردت بأكلتي‏؟‏ وإن الفاجر يمضي قدمًا لا يحاسب نفسه ولا يعاتبها‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ هي النفس الكافرة تلوم نفسها في الآخرة على ما فرَّطت في أمر الله في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3 - 4‏]‏

‏{‏أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ‏(‏3‏)‏ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ‏}‏ نزلت في عدي بن ربيعة، حليف بني زهرة، ختن الأخنس بن شريق الثقفي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ اللهم اكفني جارَي السوء، يعني‏:‏ عديًا والأخنس‏.‏ وذلك أن عدي بن ربيعة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد حدثني عن القيامة متى تكون وكيف أمرها وحالها‏؟‏ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن ‏[‏بك‏]‏ أو يجمع الله العظام‏؟‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏"‏أيحسب الإنسان‏"‏ يعني الكافر ‏{‏أَن لن نَجْمَعَ عِظَامَهُ‏}‏ بعد التفرق والبلى فنحييه‏.‏ قيل‏:‏ ذكر العظام وأراد نفسه لأن العظام قالب النفس لا يستوي الخلق إلا باستوائها‏.‏ وقيل‏:‏ هو خارج على قول المنكر أو يجمع الله العظام كقوله‏:‏ ‏"‏قال من يحيي العظام وهي رميم‏"‏ ‏[‏يس - 78‏]‏‏.‏ ‏{‏بَلَى قَادِرِينَ‏}‏ أي نقدر، استقبالٌ صُرِفَ إلى الحال، قال الفرَّاء ‏"‏قادرين‏"‏ نصب على الخروج من نجمع، كما تقول في الكلام أتحسب أن لا نقوى عليك‏؟‏ بلى قادرين على أقوى منك، يريد‏:‏ بل قادرين على أكثر من ذا

مجاز الآية‏:‏ بلى نقدر على جمع عظامه وعلى ما هو أعظم من ذلك، وهو ‏{‏عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ‏}‏ أنامله، فنجعل أصابع يديه ورجليه شيئًا واحدًا كخف البعير وحافر الحمار، فلا يرتفق بها ‏[‏بالقبض‏]‏ والبسط والأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة وغيرها‏.‏ هذا قول أكثر المفسرين‏.‏

وقال الزجاج وابن قتيبة‏:‏ معناه‏:‏ ظن الكافر أنا لا نقدر على جمع عظامه، بلى نقدر على أن نعيد السلاميات على صغرها، فنؤلف بينها حتى نسوي البنان، فمن قدر على جمع صغار العظام فهو على جمع كبارها أقدر

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 7‏]‏

‏{‏بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ‏(‏5‏)‏ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ‏(‏6‏)‏ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ‏}‏ يقول لا يجهل ابن آدم أن ربه قادر على جمع عظامه لكنه يريد أن يفجر أمامه، أي‏:‏ يمضي قدمًا ‏[‏على‏]‏ معاصي الله ما عاش راكبًا رأسه لا ينزع عنها ولا يتوب، هذا قول مجاهد، والحسن، وعكرمة، والسدي‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏"‏ليفجر أمامه‏"‏ يقدم على الذنب ويؤخر التوبة، فيقول‏:‏ سوف أتوب، سوف أعمل حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ هو الأمل، يقول‏:‏ أعيش فأصيب من الدنيا كذا وكذا ‏[‏ولا يذكر الموت‏]‏‏.‏

وقال ابن عباس، وابن زيد‏:‏ يكذّب بما أمامه من البعث والحساب‏.‏ وأصل ‏"‏الفجور‏"‏ الميل، وسمي الفاسق والكافر‏:‏ فاجرًا، لميله عن الحق‏.‏ ‏{‏يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ‏}‏ أي متى يكون ‏[‏ذلك‏]‏ تكذيبا به‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ‏}‏ قرأ أهل المدينة ‏"‏بَرَق‏"‏ بفتح الراء، وقرأ الآخرون بكسرها، وهما لغتان‏.‏

قال قتادة ومقاتل‏:‏ شخص البصر فلا يطرف مما يرى من العجائب التي كان يكذب بها في الدنيا‏.‏ قيل‏:‏ ذلك عند الموت‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ عند رؤية جهنم برق أبصار الكفار‏.‏

وقال الفراء والخليل ‏"‏برق‏"‏ - بالكسر - أي‏:‏ فزع وتحير لما يرى من العجائب و‏"‏برق‏"‏ بالفتح، أي‏:‏ شق عينه وفتحها، من البريق، وهو التلألؤ

تفسير الآيات رقم ‏[‏8 - 13‏]‏

‏{‏وَخَسَفَ الْقَمَرُ ‏(‏8‏)‏ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ‏(‏10‏)‏ كَلا لا وَزَرَ ‏(‏11‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ‏(‏12‏)‏ يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَخَسَفَ الْقَمَرُ‏}‏ أظلم وذهب نوره وضوءه‏.‏ ‏{‏وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ‏}‏ أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران‏.‏ وقيل‏:‏ يجمع بينهما في ذهاب الضياء‏.‏ وقال عطاء بن يسار‏:‏ يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى‏.‏ ‏{‏يَقُولُ الإنْسَانُ‏}‏ أي الكافر المكذب ‏{‏يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ‏}‏ أي‏:‏ المهرب وهو موضع الفرار‏.‏ ‏[‏وقيل‏:‏ هو مصدر، أي‏:‏ أين الفرار‏]‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلا لا وَزَرَ‏}‏ لا حصن ولا حرز ولا ملجأ‏.‏ وقال السدي‏:‏ لا جبل وكانوا إذا فزعوا لجؤوا إلى الجبل فتحصنوا به‏.‏ ‏[‏فقال الله تعالى‏]‏ لا جبل يومئذ يمنعهم‏.‏ ‏{‏إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ‏}‏ أي مستقر الخلق‏.‏

وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ المصير والمرجع، نظيره‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏"‏إلى ربك الرجعى‏"‏ ‏[‏العلق - 8‏]‏ ‏"‏وإلى الله المصير‏"‏ ‏[‏آل عمران - 28‏]‏ ‏(‏النور - 42‏]‏ ‏(‏فاطر - 18‏]‏‏.‏

وقال السدي‏:‏ المنتهى، نظيره‏:‏ ‏"‏وإن إلى ربك المنتهى‏"‏ ‏[‏النجم - 42‏]‏‏.‏ ‏{‏يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏قال ابن مسعود وابن عباس‏:‏ ‏"‏بما قدم‏"‏‏]‏ قبل موته من عمل صالح وسيئ، وما أخر‏:‏ بعد موته من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها‏.‏

وقال عطية عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏بما قدم‏"‏ من المعصية ‏"‏وأخر‏"‏ من الطاعة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ بما قدم من طاعة الله، وأخَّر من حق الله فضيَّعه‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ بأول عمله وآخره‏.‏ وقال عطاء‏:‏ بما قدم في أول عمره وما أخر في آخر عمره‏.‏

وقال زيد بن أسلم‏:‏ بما قدم من أمواله لنفسه وما أخر خلفه للورثة

تفسير الآيات رقم ‏[‏14 - 16‏]‏

‏{‏بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ‏(‏15‏)‏ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ‏}‏ قال عكرمة، ومقاتل، والكلبي‏:‏ معناه بل الإنسان على نفسه من نفسه رقباء يرقبونه ويشهدون عليه بعمله، وهي سمعه وبصره وجوارحه ودخل الهاء في البصيرة لأن المراد بالإنسان هاهنا جوارحه، ويحتمل أن يكون معناه ‏"‏بل الإنسان على نفسه بصيرة‏"‏ يعني‏:‏ لجوارحه، فحذف حرف الجر كقوله‏:‏ ‏"‏وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم‏"‏ ‏[‏البقرة - 233‏)‏ أي لأولادكم‏.‏ ويجوز أن يكون نعتًا لاسم مؤنث أي بل الإنسان على نفسه عين بصيرة‏.‏

وقال أبو العالية، وعطاء‏:‏ بل الإنسان على نفسه شاهد، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، والهاء في ‏"‏بصيرة‏"‏ للمبالغة، دليل هذا التأويل‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا‏"‏ ‏[‏الإسراء - 14‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ‏}‏ يعني يشهد عليه الشاهد ولو اعتذر وجادل عن نفسه لم ينفعه، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم‏"‏ ‏[‏غافر - 52‏]‏ وهذا قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد وعطاء‏:‏ قال الفراء‏:‏ ولو اعتذر فعليه من نفسه من يكذب عذره ومعنى الإلقاء‏:‏ القول، كما قال‏:‏ ‏"‏وألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون‏"‏ ‏[‏النحل - 86‏]‏‏.‏ وقال الضحاك والسدي‏:‏ ‏"‏ولو ألقى معاذيره‏"‏ يعني‏:‏ ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب‏.‏ وأهل اليمن يسمون الستر‏:‏ معذارًا، وجمعه‏:‏ معاذير، ومعناه على هذا القول‏:‏ وإن أسبل الستر ليخفي ما يعمل، فإن نفسه شاهدة عليه‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏}‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏لا تحرك به لسانك لتعجل به‏"‏ قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل ‏[‏عليه‏]‏ جبريل بالوحي كان ربما يحرك لسانه وشفتيه فيشتد عليه، وكان يعرف منه، فأنزل الله عز وجل الآية التي في لا أقسم بيوم القيامة‏:‏ ‏"‏لا تحرك به لسانك لتعجل به‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17 - 23‏]‏

‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ‏(‏17‏)‏ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ‏(‏18‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ‏(‏19‏)‏ كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ‏(‏20‏)‏ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ‏(‏21‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ‏(‏22‏)‏ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ‏}‏ قال علينا أن نجمعه في صدرك، وقرآنه‏.‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏}‏ فإذا أنزلناه فاستمع‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ علينا أن نبينه بلسانك‏.‏ قال‏:‏ فكان إذا أتاه جبريل عليه السلام أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل، ورواه محمد بن إسماعيل، عن عبد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن موسى بن أبي عائشة بهذا الإسناد وقال‏:‏ كان يحرك شفتيه إذا نزل عليه، يخشى أن ينفلت منه، فقيل له‏:‏ ‏"‏لا تحرك به لسانك‏"‏ ‏"‏إن علينا جمعه‏"‏ أن نجمعه في صدرك ‏"‏وقرآنه‏"‏ أن تقرأه‏.‏ ‏{‏كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ‏}‏ قرأ أهل المدينة والكوفة ‏"‏تحبون وتذرون‏"‏ بالتاء فيهما، وقرأ الآخرون بالياء أي يختارون الدنيا على العقبى، ويعملون لها، يعني‏:‏ كفار مكة، ومن قرأ بالتاء فعلى تقدير‏:‏ قل لهم يا محمد‏:‏ بل تحبون ‏[‏وتذرون‏]‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ‏}‏ يعني يوم القيامة ‏{‏نَاضِرَةٌ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ حسنة، وقال مجاهد‏:‏ مسرورة‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ ناعمة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ بيض يعلوها النور‏.‏ وقال السدي‏:‏ مضيئة‏.‏ وقال يمان‏:‏ مسفرة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ مشرقة بالنعيم يقال‏:‏ نضر الله وجهه ينضر نضرًا، ونضَّره الله وأنضره ونضُر وجهُه ينضُر نُضْرةً ونَضَارة‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏تعرف في وجوههم نضرة النعيم‏"‏ ‏[‏المطففين - 24‏]‏ ‏{‏إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وأكثر الناس تنظر إلى ربها عيانًا بلا حجاب‏.‏ قال الحسن‏:‏ تنظر إلى الخالق وحق لها أن ‏[‏تنضر‏]‏ وهي تنظر إلى الخالق‏.‏

أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي، أخبرنا عبد الله بن أحمد الحموي، أخبرنا إبراهيم بن خزيم الشاشي، أخبرنا عبد بن حميد، حدثنا شبابة، عن إسرائيل، عن ثوير قال‏:‏ سمعت ابن عمر يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن أدنى أهل الجنة منزلة لَمَنْ ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية‏"‏ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24 - 28‏]‏

‏{‏وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ‏(‏24‏)‏ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ‏(‏25‏)‏ كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ‏(‏26‏)‏ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ‏(‏27‏)‏ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ‏}‏ عابسة كالحة مغبرة مسودة‏.‏ ‏{‏تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ‏}‏ تستيقن أن يعمل بها عظيمة من العذاب، والفاقرة‏:‏ الداهية العظيمة، والأمر الشديد يكسر فقار الظهر‏.‏ قال سعيد بن المسيب‏:‏ قاصمة الظهر‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ هي دخول النار‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ هي أن تحجب عن رؤية الرب عز وجل‏.‏ ‏{‏كَلا إِذَا بَلَغَتِ‏}‏ يعني النفس، كناية عن غير مذكور ‏{‏التَّرَاقِيَ‏}‏ فحشرج بها عند الموت، و‏"‏التراقي‏"‏ جمع الترقوة، وهي العظام بين ثغرة النحر والعاتق، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشراف على الموت‏.‏ ‏{‏وَقِيلَ‏}‏ أي قال من حضره ‏[‏الموت‏]‏ هل ‏"‏من راق‏"‏ هل من طبيب يرقيه ويداويه فيشفيه برقيته أو دوائه‏.‏

وقال قتادة‏:‏ التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا‏.‏

وقال سليمان التيمي، ومقاتل بن سليمان‏:‏ هذا من قول الملائكة، يقول بعضهم لبعض‏:‏ من يرقى بروحه‏؟‏ فتصعد بها ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب‏.‏ ‏{‏وَظَن‏}‏ أيقن الذين بلغت روحه التراقي ‏{‏أَنَّهُ الْفِرَاقُ‏}‏ من الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29 - 35‏]‏

‏{‏وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ‏(‏29‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ‏(‏30‏)‏ فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ‏(‏31‏)‏ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏32‏)‏ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ‏(‏33‏)‏ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏34‏)‏ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ‏}‏ قال قتادة‏:‏ الشدة بالشدة‏.‏ وقال عطاء‏:‏ شدة الموت بشدة الآخرة‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ تتابعت عليه الشدائد، وقال السدي‏:‏ لا يخرج من كرب إلا جاءه أشد منه‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ أمر الدنيا بأمر الآخرة، فكان في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ اجتمع فيه الحياة والموت‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه‏.‏

وقال الحسن‏:‏ هما ساقاه إذا التفَّتَا في الكفن‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ هما ساقاه عند الموت‏.‏ ‏{‏إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ‏}‏ أي مرجع العباد ‏[‏يومئذ‏]‏ إلى الله يساقون إليه‏.‏ ‏{‏فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى‏}‏ يعني‏:‏ أبا جهل، لم يصدِّق بالقرآن ولا صلى لله‏.‏ ‏{‏وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى‏}‏ عن الإيمان‏.‏ ‏{‏ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ‏}‏ رجع إليهم ‏{‏يَتَمَطَّى‏}‏ يتبختر ويختال في مشيته، وقيل‏:‏ أصله‏:‏ ‏"‏يتمطط‏"‏ أي‏:‏ يتمدد، والمَطُّ هو المَد‏.‏ ‏{‏أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى‏}‏ هذا وعيد على وعيد من الله عز وجل لأبي جهل، وهي كلمة موضوعة للتهديد والوعيد‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ معناه أنك أجدر بهذا العذاب وأحق وأولى به، يقال للرجل يصيبه مكروه يستوجبه‏.‏

وقيل‏:‏ هي كلمة تقولها العرب لمن قاربه المكروه وأصلها ‏[‏من الولاء‏]‏ من المولى وهو القرب، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏قاتلوا الذين يلونكم من الكفار‏"‏ ‏[‏التوبة - 123‏)‏‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء وقال له‏:‏ ‏"‏أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى‏"‏ فقال أبو جهل‏:‏ أتوعدني يا محمد‏؟‏ والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئًا، وإني لأعزّ من مشى بين جبليها‏!‏ فلما كان يوم بدر صرعه الله شر مصرع، وقتله أسوأ قتلة‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إن لكل أمة فرعونا ‏[‏وإن‏]‏ فرعون هذه الأمة أبو جهل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36 - 40‏]‏

‏{‏أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ‏(‏36‏)‏ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ‏(‏37‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏38‏)‏ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى ‏(‏39‏)‏ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى‏}‏ هملا لا يؤمر ولا ينهى، وقال السدي‏:‏ معناه المهمل وإبل سدى إذا كانت ترعى حيث شاءت بلا راع‏.‏ ‏{‏أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى‏}‏ تُصَبُّ في الرحم، قرأ حفص عن عاصم ‏"‏يمنى‏"‏ بالياء، وهي قراءة الحسن، وقرأ الآخرون بالتاء، لأجل النطفة‏.‏ ‏{‏ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى‏}‏ فجعل فيه الروح فسوى خلقه‏.‏ ‏{‏فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى‏}‏ خلق من مائه أولادًا ذكورًا وإناثًا‏.‏ ‏{‏أَلَيْسَ ذَلِكَ‏}‏ الذي فعل هذا ‏{‏بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏}‏

أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني، أخبرنا أبو عمرو القاسم بن جعفر الهاشمي، أخبرنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمر اللؤلؤي، حدثنا أبو داود سليمان بن أشعث، حدثنا عبد الله بن محمد الزهري، حدثنا سفيان، حدثني إسماعيل بن أمية قال‏:‏ سمعت أعرابيًا يقول سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها‏:‏ ‏"‏أليس الله بأحكم الحاكمين‏"‏ ‏[‏التين - 8‏]‏ فليقل‏:‏ بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ‏:‏ ‏"‏لا أقسم بيوم القيامة‏"‏ فانتهى إلى ‏"‏أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى‏"‏ فليقل‏:‏ بلى، ومن قرأ‏:‏ ‏"‏والمرسلات‏"‏ فبلغ ‏"‏فبأي حديث بعده يؤمنون‏"‏ فليقل‏:‏ ‏"‏آمنا بالله‏"‏‏.‏

أخبرنا عمر بن عبد العزيز، أخبرنا القاسم بن جعفر، أخبرنا أبو علي اللؤلؤي، أخبرنا أبو داود، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن موسى بن أبي عائشة قال‏:‏ كان رجل يصلي فوق بيته فكان إذا قرأ‏:‏ ‏"‏أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى‏"‏ قال‏:‏ سبحانك بلى، فسألوه عن ذلك فقال‏:‏ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

سورة الإنسان

قال عطاء‏:‏ هي مكية وقال مجاهد وقتادة‏:‏ مدنية وقال الحسن وعكرمة‏:‏ هي مدنية إلا آية وهي قوله‏:‏ ‏"‏فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 2‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ‏(‏1‏)‏ إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ‏}‏ يعني آدم عليه السلام ‏{‏حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ‏}‏ أربعون سنة ملقى من طين بين مكة والطائف قبل أن ينفخ فيه الروح ‏{‏لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا‏}‏ لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به، يريد‏:‏ كان شيئًا ولم يكن مذكورًا، وذلك من حين خلقه من طين إلى أن ‏[‏ينفخ‏]‏ فيه الروح‏.‏

روي أن عمر سمع رجلا يقرأ هذه الآية‏:‏ ‏"‏لم يكن شيئًا مذكورًا‏"‏ فقال عمر‏:‏ ليتها تمت، يريد‏:‏ ليته بقي على ما كان قال ابن عباس‏:‏ ثم خلقه بعد عشرين ومائة سنة‏.‏ ‏{‏إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ‏}‏ يعني ولد آدم ‏{‏مِنْ نُطْفَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ مَنْي الرجل ومني المرأة‏.‏

‏{‏أَمْشَاجٍ‏}‏ أخلاط، واحدها‏:‏ مَشْجٌ ومَشِيْجٌ، مثل خدن وخدين‏.‏

قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد والربيع‏:‏ يعني ماء الرجل ‏[‏وماء المرأة‏]‏ يختلطان في الرحم فيكون منهما الولد، فماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا صاحبه كان الشبه له، وما كان من عصب وعظم فهو من نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ أراد بالأمشاج اختلاف ألوان النطفة، فنطفة الرجل بيضاء وحمراء وصفراء، ونطفة المرأة خضراء وحمراء ‏[‏وصفراء‏]‏ وهي رواية الوالبي عن ابن عباس‏.‏ وكذلك قال الكلبي‏:‏ قال‏:‏ الأمشاج البياض في الحمرة والصفرة‏.‏ وقال يمان‏:‏ كل لونين اختلطا فهو أمشاج‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ هي العروق التي تكون في النطفة‏.‏

وقال الحسن‏:‏ نطفة مشجت بدم، وهو دم الحيضة، فإذا حبلت ارتفع الحيض‏.‏

وقال قتادة‏:‏ هي أطوار الخلق نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم ‏[‏عظمًا‏]‏ ثم يكسوه لحمًا ثم ينشئه خلقا آخر‏.‏

‏{‏نَبْتَلِيهِ‏}‏ نختبره بالأمر والنهي ‏{‏فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏ قال بعض أهل العربية‏:‏ فيه تقديم وتأخير، مجازه فجعلناه سميعًا بصيرًا لنبتليه لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3 - 4‏]‏

‏{‏إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ‏(‏3‏)‏ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالا وَسَعِيرًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ‏}‏ أي بينا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة، وعرَّفناه طريق الخير والشر ‏{‏إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا‏}‏ إما مؤمنا سعيدا وإما كافرا شقيا‏.‏ وقيل‏:‏ معنى الكلام الجزاء، يعني‏:‏ بيَّنا له الطريق إن شكر أو كفر‏.‏ ثم بيَّن ما للفريقين فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ‏}‏ يعني‏:‏ في جهنم قرأ أهل المدينة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏"‏سلاسلا‏"‏ و ‏"‏قواريرًا‏"‏ فقوارير بالألف في الوقف، وبالتنوين في الوصل فيهن جميعا، وقرأ حمزة ويعقوب بلا ألف في الوقف، ولا تنوين في الوصل فيهن، وقرأ ابن كثير ‏"‏قوارير‏"‏ الأولى بالألف في الوقف وبالتنوين في الوصل، و‏"‏سلاسل‏"‏ و‏"‏قوارير‏"‏ الثانية بلا ألف ولا تنوين وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحفص ‏"‏سلاسلا‏"‏ و‏"‏قواريرا‏"‏ الأولى بالألف ‏[‏في الوقف‏]‏ على الخط وبغير تنوين في الوصل، و‏"‏قوارير‏"‏ الثانية بغير ألف ولا تنوين‏.‏ قوله ‏{‏وَأَغْلالا‏}‏ يعني‏:‏ في أيديهم، تغل إلى أعناقهم ‏{‏وَسَعِيرًا‏}‏ وقودًا شديدًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 8‏]‏

‏{‏إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ‏(‏5‏)‏ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏6‏)‏ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ‏(‏7‏)‏ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الأبْرَارَ‏}‏ يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم، ‏[‏واحدهم‏]‏ بار، مثل‏:‏ شاهد وأشهاد، وناصر وأنصار، و‏"‏بر‏"‏ أيضا مثل‏:‏ نهر وأنهار ‏{‏يَشْرَبُونَ‏}‏ في الآخرة، ‏{‏مِنْ كَأْسٍ‏}‏ ‏[‏فيها‏]‏ شراب ‏{‏كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا‏}‏ قال قتادة‏:‏ يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك‏.‏ قال عكرمة‏:‏ ‏"‏مزاجها‏"‏ طعمها، وقال أهل المعاني‏:‏ أراد كالكافور في بياضه وطيب ريحه وبرده، لأن الكافور لا يشرب، وهو كقوله‏:‏ ‏"‏حتى إذا جعله نارا‏"‏ ‏[‏الكهف - 96‏]‏ أي كنار‏.‏ وهذا معنى قول ‏[‏قتادة‏]‏ ومجاهد‏:‏ يمازجه ريح الكافور‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ طيبت بالكافور والمسك والزنجبيل‏.‏ وقال عطاء والكلبي‏:‏ الكافور اسم لعين ماء في الجنة‏.‏ ‏{‏عَيْنًا‏}‏ نصب تبعًا للكافور‏.‏ وقيل‏:‏ ‏[‏هو‏]‏ نصب على المدح‏.‏ وقيل‏:‏ أعني عينا‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الأجود أن يكون المعنى من عين ‏{‏يَشْرَبُ بِهَا‏}‏ ‏[‏قيل‏:‏ يشربها‏]‏ والباء صلة وقيل بها أي منها ‏{‏عِبَادَ اللَّهِ‏}‏ قال ابن عباس أولياء الله ‏{‏يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا‏}‏ أي يقودونها حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم، كمن يكون له نهر يفجره هاهنا وهاهنا إلى حيث يريد‏.‏ ‏{‏يُوفُونَ بِالنَّذْرِ‏}‏ هذا من صفاتهم في الدنيا أي كانوا في الدنيا كذلك‏.‏

قال قتادة‏:‏ أراد يوفون بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة، وغيرها من الواجبات ومعنى النذر‏:‏ الإيجاب‏.‏

وقال مجاهد وعكرمة‏:‏ إذا نذروا في طاعة الله وفوا به‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن طلحة بن عبد الملك الأيلي، عن القاسم بن محمد، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه‏"‏ ‏{‏وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا‏}‏ فاشيًا ممتدًا، يقال‏:‏ استطار الصبح، إذا امتد وانتشر‏.‏

قال مقاتل‏:‏ كان شره فاشيًا في السماوات فانشقت، وتناثرت الكواكب، وكورت الشمس والقمر، وفزعت الملائكة، وفي الأرض‏:‏ فنسفت الجبال، وغارت المياه، وتكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء‏.‏ ‏{‏وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ‏}‏ أي على حب الطعام وقلته وشهوتهم له وحاجتهم إليه‏.‏ وقيل‏:‏ على حب الله عز وجل ‏{‏مِسْكِينًا‏}‏ فقيرًا لا مال له ‏{‏وَيَتِيمًا‏}‏ صغيرًا لا أب له ‏{‏وَأَسِيرًا‏}‏ قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء‏:‏ هو المسجون من أهل القبلة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك‏.‏ وقيل‏:‏ الأسير المملوك‏.‏ وقيل‏:‏ المرأة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان‏"‏ أي أسراء‏.‏

واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، قال مقاتل‏:‏ نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا‏.‏

وروى مجاهد وعطاء عن ابن عباس‏:‏ أنها نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك أنه عمل ليهودي بشيء من شعير، ‏[‏فقبض الشعير‏]‏ فطحن ثلثه فجعلوا منه شيئًا ليأكلوه، فلما تمَّ إنضاجه أتى مسكين فسأل فأخرجوا إليه الطعام، ثم عمل الثلث الثاني فلما تم إنضاجه أتى يتيم فسأل فأطعموه، ثم عمل الثلث الباقي فلما تم إنضاجه أتى أسير من المشركين، فسأل فأطعموه، وطووا يومهم ذلك‏:‏ وهذا قول الحسن وقتادة، أن الأسير كان من أهل الشرك، وفيه دليل على أن إطعام الأسارى، وإن كانوا من أهل الشرك، حسن يرجى ثوابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9 - 12‏]‏

‏{‏إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا ‏(‏9‏)‏ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ‏(‏10‏)‏ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ‏(‏11‏)‏ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا‏}‏ والشُّكور مصدر كالعُقود والدُّخول والخروج‏.‏ قال مجاهد وسعيد بن جبير‏:‏ إنهم لم يتكلموا به ولكن علم الله ذلك من قلوبهم، فأثنى عليهم‏.‏ ‏{‏إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا‏}‏ تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته، نسب العبوس إلى اليوم، كما يقال‏:‏ يوم صائم وليل قائم‏.‏ وقيل وصف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدة ‏{‏قَمْطَرِيرًا‏}‏ قال قتادة، ومجاهد، ومقاتل‏:‏ ‏"‏القمطرير‏"‏‏:‏ الذي يقبض الوجوه والجباه بالتعبيس‏.‏ قال الكلبي‏:‏ العبوس الذي لا انبساط فيه، و‏"‏القمطرير‏"‏ الشديد، قال الأخفش‏:‏ ‏"‏القمطرير‏"‏ أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء، يقال‏:‏ يوم قمطرير وقماطر، إذا كان شديدًا كريهًا، واقْمَطَّر اليوم فهو مُقْمَطِر‏.‏ ‏{‏فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ‏}‏ الذي يخافون ‏{‏وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً‏}‏ حسنا في وجوههم، ‏{‏وَسُرُورًا‏}‏ في قلوبهم‏.‏ ‏{‏وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا‏}‏ على طاعة الله واجتناب معصيته، وقال الضحاك‏:‏ على الفقر‏.‏ وقال عطاء‏:‏ على الجوع‏.‏ ‏{‏جَنَّةً وَحَرِيرًا‏}‏ قال الحسن‏:‏ أدخلهم الله الجنة وألبسهم الحرير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13 - 18‏]‏

‏{‏مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا ‏(‏13‏)‏ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا ‏(‏14‏)‏ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ ‏(‏15‏)‏ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ‏(‏16‏)‏ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا ‏(‏17‏)‏ عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏مُتَّكِئِينَ‏}‏ نصب على الحال ‏{‏فِيهَا‏}‏ في الجنة ‏{‏عَلَى الأرَائِكِ‏}‏ السرُر في الحِجال، ولا تكون أريكة إلا إذا اجتمعا ‏{‏لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا‏}‏ أي ‏[‏صيفًا‏]‏ ولا شتاء‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يعني شمسًا يؤذيهم حرها ولا زمهريرا يؤذيهم برده، لأنهما يؤذيان في الدنيا‏.‏ والزمهرير‏:‏ البرد الشديد‏.‏ ‏{‏وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا‏}‏ أي قريبة منهم ظلال أشجارها، ونصب ‏"‏دانية‏"‏ بالعطف على قوله ‏"‏متكئين‏"‏ وقيل‏:‏ على موضع قوله‏:‏ ‏"‏لا يرون فيها شمسًا ولا زمهريرًا‏"‏ ويرون ‏"‏دانيةً‏"‏ وقيل‏:‏ على المدح ‏{‏وَذُلِّلَتْ‏}‏ سُخرت وقُربت ‏{‏قُطُوفُهَا‏}‏ ثمارها ‏{‏تَذْلِيلا وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآَنِيةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا‏}‏ يأكلون من ثمارها قياما وقعودا ومضطجعين ويتناولونها كيف شاءوا على أي حال كانوا‏.‏ ‏{‏قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ‏}‏ قال المفسرون‏:‏ أراد بياض الفضة في صفاء القوارير، فهي من فضة في صفاء الزجاج، يرى ما في داخلها من خارجها‏.‏

قال الكلبي إن الله جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم، وإن أرض الجنة من فضة، فجعل منها قوارير يشربون فيها ‏{‏قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا‏}‏ قدروا الكأس على قدر ريِّهم لا يزيد ولا ينقص، أي قدرها لهم السقاة والخدم الذين يطوفون عليهم يقدرونها ثم يسقون‏.‏ ‏{‏وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا‏}‏ يشوق ويطرب، والزنجبيل‏:‏ مما كانت العرب تستطيبه جدا، فوعدهم الله تعالى أنهم يسقون في الجنة الكأس الممزوجة بزنجبيل الجنة‏.‏ قال مقاتل‏:‏ لا يشبه زنجبيل الدنيا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كل ما ذكر الله في القرآن مما في الجنة وسماه ليس له في الدنيا مثل‏.‏ وقيل‏:‏ هو عين في الجنة يوجد منها طعم الزنجبيل‏.‏ قال قتادة‏:‏ يشربها المقربون صرفا، ويمزج لسائر أهل الجنة‏.‏ ‏{‏عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا‏}‏ قال قتادة‏:‏ سلسة منقادة لهم يصرفونها حيث شاءوا وقال مجاهد‏:‏ حديدةٌ ‏[‏شديدة‏]‏ الجْرَية‏.‏ وقال ‏[‏أبو العالية‏]‏ ومقاتل بن حيان‏:‏ سميت سلسبيلا لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان وشراب الجنة على برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك‏.‏ قال الزجَّاج‏:‏ سميت سلسبيلا لأنها في غاية السلاسة تتسلسل في الحلق، ومعنى قوله‏:‏ ‏"‏تسمى‏"‏ أي توصف لأن أكثر العلماء على أن سلسبيلا صفة لا اسم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19 - 21‏]‏

‏{‏وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ‏(‏19‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ‏(‏20‏)‏ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا‏}‏ قال عطاء‏:‏ يريد في بياض اللؤلؤ وحسنه، واللؤلؤ إذا نثر من الخيط على البساط، كان أحسن منه منظوما‏.‏ وقال أهل المعاني‏:‏ إنما شُبِّهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة، فلو كانوا صفًا لشبهوا بالمنظوم‏.‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ‏}‏ أي إذا ‏[‏رأيت‏]‏ ببصرك ونظرت به ثَمَّ يعني في الجنة ‏{‏رَأَيْتَ نَعِيمًا‏}‏ لا يوصف ‏{‏وَمُلْكًا كَبِيرًا‏}‏ وهو أن أدناهم منزلة ينظر إلى ملكه في مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه‏.‏ وقال مقاتل والكلبي‏:‏ هو أن رسول رب العزة من الملائكة لا يدخل عليه إلا بإذنه‏.‏ وقيل‏:‏ ملكًا لا زوال له‏.‏ ‏{‏عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ‏}‏ قرأ أهل المدينة وحمزة‏:‏ ‏"‏عاليْهِم‏"‏ ساكنة الياء مكسورة الهاء، فيكون في موضع رفع بالابتداء، وخبره‏:‏ ثياب سندس، وقرأ الآخرون بنصب الياء وضم الهاء على ‏[‏الصفة، أي فوقهم، وهو نصب على الظرف‏]‏ ‏{‏ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ‏}‏ قرأ نافع وحفص ‏"‏خضر واستبرق‏"‏ ‏[‏مرفوعا‏]‏ عطفا على الثياب، وقرأهما حمزة والكسائي مجرورين، وقرأ ابن كثير وأبو بكر ‏"‏خضر‏"‏ بالجر و‏"‏إستبرقٌ‏"‏ بالرفع، وقرأ أبو جعفر وأهل البصرة والشام على ضده ‏[‏فالرفع على‏]‏ نعت الثياب ‏[‏والجر‏]‏ على نعت السندس ‏[‏وإستبرق بالرفع على أنه معطوف على وثياب إستبرقٍ فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كقوله ‏"‏وأسأل القرية‏"‏ أي أهل القرية، ومثله قوله‏:‏ خز أي ثوب خز، وأما جر إستبرق فعلى أنه معطوف على سندس وهو جر بإضافة الثياب إليه، وهما جنسان أضيفت الثياب إليهما كما تقول‏:‏ ثوب خز وكتان فتضيفه إلى الجنسين‏]‏‏.‏

‏{‏وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا‏}‏ قيل‏:‏ طاهرًا من الأقذار والأقذاء لم تدنسه الأيدي والأرجل كخمر الدنيا‏.‏

وقال أبو قلابة وإبراهيم‏:‏ إنه لا يصير بولا نجسًا ولكنه يصير رشحًا في أبدانهم، ‏[‏ريحه كريح المسك‏]‏، وذلك أنهم يؤتون بالطعام، فإذا كان آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور، فيشربون فيطهر بطونهم ويصير ما أكلوا رشحًا يخرج من جلودهم ‏[‏ريحًا‏]‏ أطيب من المسك الإذفر، وتضمر بطونهم وتعود شهوتهم‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22 - 24‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ‏(‏22‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزيلا ‏(‏23‏)‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا‏}‏ أي ما وصف من نعيم الجنة كان لكم جزاء بأعمالكم، ‏{‏وَكَانَ سَعْيُكُمْ‏}‏ عملكم في الدنيا بطاعة الله مشكورا، قال عطاء‏:‏ شكرتكم عليه ‏[‏فأثيبكم‏]‏ أفضل الثواب‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزيلا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ متفرقًا آية بعد آية، ولم ينزل جملة واحدة‏.‏ ‏{‏فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ‏}‏ يعني من مشركي مكة ‏{‏آثِمًا أَوْ كَفُورًا‏}‏ يعني وكفورًا، والألف صلة‏.‏

قال قتادة‏:‏ أراد بالآثم الكفور أبا جهل وذلك أنه لما فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أبو جهل عنها، وقال‏:‏ لئن رأيت محمدًا يصلي لأطأن عنقه‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ أراد بـ‏"‏الآثم‏"‏ عتبة بن ربيعة وبـ‏"‏الكفور‏"‏ الوليد بن المغيرة، قالا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء والمال فارجع عن هذا الأمر، قال عتبة‏:‏ فأنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بغير مهر، وقال الوليد‏:‏ أنا أعطيك من المال حتى ترضى، فارجع عن هذا الأمر، فأنزل الله هذه الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25 - 28‏]‏

‏{‏وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا ‏(‏25‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا ‏(‏26‏)‏ إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا ‏(‏27‏)‏ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ‏}‏ ‏[‏يعني صلاة المغرب والعشاء‏]‏ ‏{‏وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا‏}‏ يعني التطوع بعد المكتوبة‏.‏ ‏{‏إِنَّ هَؤُلاءِ‏}‏ يعني كفار مكة ‏{‏يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ‏}‏ أي الدار العاجلة وهي الدنيا‏.‏ ‏{‏وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ‏}‏ يعني أمامهم ‏{‏يَوْمًا ثَقِيلا‏}‏ شديدًا وهو يوم القيامة‏.‏ أي يتركونه فلا يؤمنون به ولا يعملون له‏.‏ ‏{‏نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا‏}‏ ‏[‏قوينا وأحكمنا‏]‏ ‏{‏أَسْرَهُم‏}‏ قال مجاهد وقتادة ‏[‏ومقاتل‏]‏ ‏"‏أسرهم‏"‏ أي‏:‏ خلقهم، يقال‏:‏ رجل حسن الأسر، أي‏:‏ الخلق‏.‏

وقال الحسن‏:‏ يعني أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب‏.‏

وروي عن مجاهد في تفسير ‏"‏الأسر‏"‏ قال‏:‏ الشرج، يعني‏:‏ موضع مَصْرَفَيْ البول والغائط، إذا خرج الأذى تقَّبضا‏.‏ ‏{‏وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا‏}‏ أي‏:‏ إذا شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29 - 31‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا ‏(‏29‏)‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏30‏)‏ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ هَذِهِ‏}‏ يعني هذه السورة ‏{‏تَذْكِرَة‏}‏ تذكير وعظة ‏{‏فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا‏}‏ وسيلة بالطاعة‏.‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ‏}‏ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو‏:‏ ‏"‏يشاءون‏"‏ بالياء، وقرأ الآخرون بالتاء، ‏{‏إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ أي لستم تشاءون إلا بمشيئة الله عز وجل، لأن الأمر إليه ‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}‏ ‏{‏يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ‏}‏ أي المشركين ‏{‏أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏

سورة المرسلات

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 4‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا ‏(‏1‏)‏ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ‏(‏3‏)‏ فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا‏}‏ يعني الرياح أرسلت متتابعة كعرف الفرس‏.‏ وقيل‏:‏ عرفًا أي كثيرًا تقول العرب‏:‏ الناس إلى فلان عرف واحد، إذا توجهوا إليه فأكثروا، هذا ‏[‏معنى‏]‏ قول مجاهد وقتادة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يعني الملائكة التي أرسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه، وهي رواية مسروق عن ابن مسعود‏.‏ ‏{‏فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا‏}‏ يعني الرياح الشديدة الهبوب‏.‏ ‏{‏وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا‏}‏ يعني الرياح اللينة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هي الرياح التي يرسلها الله بشرًا بين يدي رحمته‏.‏ وقيل‏:‏ هي الرياح التي تنشر السحاب وتأتي بالمطر‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هم الملائكة ينشرون الكتب‏.‏ ‏{‏فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك‏:‏ يعني الملائكة تأتي بما يفرق بين الحق والباطل‏.‏ وقال ‏[‏قتادة‏]‏ والحسن‏:‏ هي آي القرآن تفرق بين الحلال والحرام‏.‏ وروي عن مجاهد قال‏:‏ هي الرياح تفرق السحاب وتبدِّده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 10‏]‏

‏{‏فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ‏(‏5‏)‏ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ‏(‏9‏)‏ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا‏}‏ يعني الملائكة تلقي الذكر إلى الأنبياء، نظيرها‏:‏ ‏"‏يلقي الروح من أمره‏"‏ ‏[‏غافر - 15‏]‏‏.‏ ‏{‏عُذْرًا أَوْ نُذْرًا‏}‏ أي للإعذار والإنذار، وقرأ الحسن ‏"‏عُذُرًا‏"‏ بضم الذال واختلف فيه عن أبي بكر عن عاصم، وقراءة العامة بسكونها، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص ‏"‏‏[‏عذرًا أو‏]‏ نذرًا‏"‏ ساكنة الذال فيهما، وقرأ الباقون بضمها، ومن سكَّن قال‏:‏ لأنهما في موضع مصدرين بمعنى الإنذار والإعذار، وليسا بجمع فينقلا ‏[‏وقال ابن كثير ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم ويعقوب برواية رويس بن حسان‏:‏ ‏"‏عذْرًا‏"‏ سكون الذال و‏"‏نُذُرًا‏"‏ بضم الذال، وقرأ روح بالضم في العذر والنذر جميعًا، وهي قراءة الحسن، والوجه فيهما أن العذر والنذر بضمتين كالأذُن والعُنِق هو الأصل ويجوز التخفيف فيهما كما يجوز التخفيف في العنق والأذن، يقال‏:‏ عذْر ونذْر، وعذُر ونذُر، كما يقال‏:‏ عُنْق وعُنُق، وأُذْن وأُذُن، والعذر والنذر مصدران بمعنى الإعذار والإنذار كالنكير والعذير والنذير، ويجوز أن يكونا جمعين لعذير ونذير، ويجوز أن يكون العذر جمع عاذر، كشارف وشُرُف، والمعنى في التحريك والتسكين واحد على ما بينا إلى هاهنا أقسام‏]‏ ذكرها على قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَا تُوعَدُونَ‏}‏ ‏{‏إِنَّ مَا تُوعَدُونَ‏}‏ من أمر الساعة والبعث ‏{‏لَوَاقِع‏}‏ ‏[‏لكائن‏]‏ ثم ذكر متى يقع‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ‏}‏ محي نورها‏.‏ ‏{‏وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ‏}‏ شقت‏.‏ ‏{‏وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ‏}‏ قلعت من أماكنها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11 - 25‏]‏

‏{‏وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ‏(‏11‏)‏ لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ‏(‏12‏)‏ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ‏(‏13‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ‏(‏14‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏15‏)‏ أَلَمْ نُهْلِكِ الأوَّلِينَ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ ‏(‏17‏)‏ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ‏(‏18‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏19‏)‏ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏20‏)‏ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏21‏)‏ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ‏(‏22‏)‏ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ‏(‏23‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏24‏)‏ أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ‏}‏ قرأ أهل البصرة ‏"‏وقتت‏"‏ بالواو، وقرأ أبو جعفر بالواو وتخفيف القاف، وقرأ الآخرون بالألف وتشديد القاف، وهما لغتان‏.‏ والعرب تعاقبت بين الواو والهمزة كقولهم‏:‏ وكَّدت وأكدت، ورَّخت وأرخت، ومعناهما‏:‏ جمعت لميقات يوم معلوم، وهو يوم القيامة ليشهدوا على الأمم‏.‏ ‏{‏لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ‏}‏ أي أخرت، وضرب الأجل لجمعهم فعجَّب العباد من ذلك اليوم، ثم بيَّن فقال ‏{‏لِيَوْمِ الْفَصْلِ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يوم يفصل الرحمن عز وجل بين الخلائق‏.‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَومُ الفَصْلِ وَيْلٌ يَومَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نُهْلِكِ الأوَّلِينَ‏}‏ يعني الأمم الماضية بالعذاب، في الدنيا حين كذبوا رسلهم‏.‏ ‏{‏ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ‏}‏ السالكين سبيلهم في الكفر والتكذيب يعني كفار مكة بتكذيبهم محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ‏}‏ يعني النطفة‏.‏ ‏{‏فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ‏}‏ يعني الرحم‏.‏ ‏{‏إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ‏}‏ وهو وقت الولادة‏.‏ ‏{‏فَقَدَرْنَا‏}‏ قرأ أهل المدينة والكسائي‏:‏ ‏"‏فقدَّرنا‏"‏ بالتشديد من التقدير، وقرأ الآخرون بالتخفيف من القدرة، لقوله‏:‏ ‏"‏فنعم القادرون‏"‏ وقيل‏:‏ معناهما واحد، وقوله‏:‏ ‏{‏فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ‏}‏ أي المقدّرون‏.‏ ‏{‏وَيْلٌ يَومَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا‏}‏ وعاءً، ومعنى الكَفْت‏:‏ الضم والجمع، يقال‏:‏ كفت الشيء‏:‏ إذا ضمه وجمعه وقال الفَّراء‏:‏ يريد تكفتهم أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم، وتكفتهم أمواتًا في بطنها، أي‏:‏ تحوزهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26 - 32‏]‏

‏{‏أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ‏(‏26‏)‏ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ‏(‏27‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏28‏)‏ انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏29‏)‏ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ‏(‏30‏)‏ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ‏(‏31‏)‏ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

وهو قوله ‏{‏أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ‏}‏ جبالا ‏{‏شَامِخَاتٍ‏}‏ عاليات، ‏{‏وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا‏}‏ عذبًا‏.‏ ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ وهذا كله أعجب من البعث،‏.‏ ثم أخبر أنه يقال لهم يوم القيامة ‏{‏انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ‏}‏

‏{‏انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ‏}‏ في الدنيا‏.‏ ‏{‏انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ‏}‏ يعني دخان جهنم إذا ارتفع انشعب وافترق ثلاث فرق‏.‏ وقيل‏:‏ يخرج عنق من النار فيتشعب ثلاث شعب، أما النور فيقف على رءوس المؤمنين، والدخان يقف على رءوس المنافقين، واللهب الصافي يقف على رءوس الكافرين‏.‏ ثم وصف ذلك الظل فقال عز وجل ‏{‏لا ظَلِيلٍ‏}‏ لا يظل من الحر ‏{‏وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ لا يرد لهب جهنم عنكم، والمعنى أنهم ‏[‏إذا‏]‏ استظلوا بذلك الظل لم يدفع عنهم حر اللهب‏.‏ ‏{‏إِنَّهَا‏}‏ يعني جهنم ‏{‏تَرْمِي بِشَرَرٍ‏}‏ وهو ما تطاير من النار، واحدها شررة ‏{‏كَالْقَصْرِ‏}‏ وهو البناء العظيم، قال ابن مسعود‏:‏ يعني الحصون‏.‏

وقال عبد الرحمن بن عياش سألت ابن عباس عن قوله تعالى‏:‏ ‏"‏إنها ترمي بشرر كالقصر‏"‏ قال‏:‏ هي الخشب العظام المقطعة، وكنا نعمد إلى الخشب فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه ندخرها للشتاء، فكنا نسميها القصر‏.‏

وقال سعيد بن جبير، والضحاك‏:‏ هي أصول النخل والشجر العظام، واحدتها قصرة، مثل تمرة وتمر، وجمرة وجمر‏.‏

وقرأ علي وابن عباس ‏"‏كالقصر‏"‏ بفتح الصاد، أي أعناق النخل، والقصرة العنق، وجمعها قصر وقصرات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 42‏]‏

‏{‏كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ‏(‏33‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏34‏)‏ هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ‏(‏35‏)‏ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ‏(‏36‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏37‏)‏ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ ‏(‏38‏)‏ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ‏(‏39‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏40‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ ‏(‏41‏)‏ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏كَأَنَّه‏}‏ رد الكناية إلى اللفظ ‏{‏جِمَالَة‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وحفص‏:‏ ‏"‏جمالة‏"‏ على جمع الجمل، مثل حجر وحجارة، وقرأ يعقوب بضم الجيم بلا ألف، أراد‏:‏ الأشياء العظام المجموعة، وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏جمالات‏"‏ بالألف وكسر الجيم على جمع الجمال، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير‏:‏ هي حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض، حتى تكون كأوساط الرجال، ‏{‏صُفْرٌ‏}‏ جمع الأصفر، يعني لون النار، وقيل‏:‏ ‏"‏الصفر‏"‏ معناه‏:‏ السود، لأنه جاء في الحديث أن شرر نار جهنم أسود كالقير، والعرب تسمى سود الإبل صفرًا لأنه يشوب سوادها شيء من صفرة كما يقال لبيض الظباء‏:‏ أدم، لأن بياضها يعلوه كدرة‏.‏ ‏{‏وَيْلٌ يَومَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ‏}‏ وفي القيامة مواقف، ففي بعضها يختصمون ويتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا ينطقون‏.‏ ‏{‏وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ‏}‏ رفع عطف على قوله‏:‏ ‏"‏يؤذن‏"‏ قال الجنيد‏:‏ أي لا عذر لمن أعرض عن مُنْعِمِه وكفر بأياديه ونعمه‏.‏ ‏{‏وَيْلٌ يَومَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ‏}‏ بين أهل الجنة والنار ‏{‏جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ‏}‏ يعني مكذبي هذه الأمة والأولين الذين كذبوا أنبياءهم‏.‏ ‏{‏فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ إن كانت لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم‏.‏ ‏{‏وَيْلٌ يَومَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ‏}‏ جمع ظل أي في ظلال الشجر ‏{‏وَعُيُون‏}‏ الماء‏.‏

‏{‏وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43 - 50‏]‏

‏{‏كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏44‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏45‏)‏ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ‏(‏46‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ‏(‏48‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏49‏)‏ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

ويقال لهم ‏{‏كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ في الدنيا بطاعتي‏.‏

‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين‏}‏‏.‏

ثم قال لكفار مكة‏:‏ ‏{‏كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا‏}‏ في الدنيا ‏{‏إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ‏}‏ مشركون بالله عز وجل مستحقون للعذاب‏.‏ ‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا‏}‏ صلُّوا ‏{‏لا يَرْكَعُونَ‏}‏ لا يصلُّون، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ إنما يقال لهم هذا يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون‏.‏ ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ‏}‏ بعد القرآن ‏{‏يُؤْمِنُونَ‏}‏ إذا لم يؤمنوا به‏.‏

سورة النبأ

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 5‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏1‏)‏ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ‏(‏3‏)‏ كَلا سَيَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏عَمَّ‏}‏ أصلَه‏:‏ ‏"‏عن ما‏"‏ فأدغمت النون في الميم وحذفت ألف ‏"‏ما‏"‏ ‏[‏كقوله‏]‏ ‏"‏فيم‏"‏ و‏"‏بم‏"‏‏؟‏ ‏{‏يَتَسَاءَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ عن أي شيء يتساءلون، هؤلاء المشركون‏؟‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى التوحيد وأخبرهم بالبعث بعد الموت، وتلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون بينهم فيقولون‏:‏ ماذا جاء به محمد‏؟‏ قال الزَّجاج‏:‏ اللفظ لفظ استفهام ومعناه التفخيم، كما تقول‏:‏ أي شيء زيد‏؟‏ إذا عظمت ‏[‏أمره‏]‏ وشأنه‏.‏ ثم ذكر أن تساؤلهم عماذا فقال‏:‏ ‏{‏عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ‏}‏ قال مجاهد والأكثرون‏:‏ هو القرآن، دليله‏:‏ قوله‏:‏ ‏"‏قل هو نبأ عظيم‏"‏ ‏[‏ص - 67‏]‏ وقال قتادة‏:‏ هو البعث‏.‏ ‏{‏الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ‏}‏ فمصدّق ومكذّب ‏{‏كَلا سَيَعْلَمُونَ‏}‏‏"‏كلا‏"‏ نفي لقولهم، ‏"‏سيعلمون‏"‏ عاقبة تكذيبهم حين تنكشف الأمور‏.‏ ‏{‏ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ‏}‏ وعيد لهم على أثر وعيد‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ‏"‏كلا سيعلمون‏"‏ يعني الكافرين، ‏"‏ثم كلا سيعلمون‏"‏ يعني‏:‏ المؤمنين، ثم ذكر صنعائه ليعلموا توحيده فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6 – 14‏]‏

‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا ‏(‏6‏)‏ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ‏(‏7‏)‏ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ‏(‏8‏)‏ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ‏(‏9‏)‏ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ‏(‏10‏)‏ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ‏(‏11‏)‏ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ‏(‏12‏)‏ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ‏(‏13‏)‏ وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا‏}‏ فراشًا‏.‏

‏{‏وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا‏}‏ للأرض حتى لا تميد‏.‏ ‏{‏وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا‏}‏ أصنافًا ذكورًا وإناثًا‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا‏}‏ أي راحة لأبدانكم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ‏"‏السبات‏"‏ أن ينقطع عن الحركة والروح فيه‏.‏ وقيل‏:‏ معناه جعلنا نومكم قطعًا لأعمالكم، لأن أصل السبت‏:‏ القطع‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا‏}‏ غطاء وغشاء يستر كل شيء بظلمته‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا‏}‏ المعاش‏:‏ العيش، وكل ما يعاش فيه فهو معاش، أي جعلنا النهار سببًا للمعاش والتصرف في المصالح‏.‏ قال ‏[‏ابن عباس‏]‏ يريد‏:‏ تبتغون فيه من فضل الله، وما قسم لكم من رزقه‏.‏ ‏{‏وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا‏}‏ يريد سبع سماوات‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا سِرَاجًا‏}‏ ‏[‏يعني الشمس‏]‏ ‏{‏وَهَّاجًا‏}‏ مضيئًا منيرًا‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الوهاج‏:‏ الوقاد‏.‏ قال مقاتل‏:‏ جعل فيه نورًا وحرارةً، والوهج يجمع النور والحرارة‏.‏ ‏{‏وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ‏}‏ قال مجاهد، وقتادة، ومقاتل، والكلبي‏:‏ يعني الرياح التي تعصر السحاب، وهي رواية العوفي عن ابن عباس‏.‏

قال الأزهري‏:‏ هي الرياح ذوات الأعاصير، فعلى هذا التأويل تكون ‏"‏من‏"‏ بمعنى الباء أي بالمعصرات، وذلك أن الريح تستدر المطر‏.‏

وقال أبو العالية، والربيع، والضحاك‏:‏ المعصرات هي السحاب وهي رواية الوالبي عن ابن عباس‏.‏

قال الفراء‏:‏ ‏[‏المعصرات السحائب‏]‏ ‏[‏التي‏]‏ تتحلب بالمطر ولا تمطر، كالمرأة المعصر هي التي دنا حيضها ولم تحض‏.‏

وقال ابن كيسان‏:‏ هي المغيثات من قوله ‏"‏‏[‏فيه يغاث الناس‏]‏ وفيه يعصرون‏"‏‏.‏

وقال الحسن، وسعيد بن جبير، وزيد بن أسلم، ومقاتل بن حيان‏:‏ ‏"‏من المعصرات‏"‏ أي من السماوات‏.‏

‏{‏مَاءً ثَجَّاجًا‏}‏ أي صبابًا، وقال مجاهد‏:‏ مدرارًا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ متتابعًا يتلو بعضه بعضًا‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ كثيرًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15 - 19‏]‏

‏{‏لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ‏(‏15‏)‏ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ‏(‏16‏)‏ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ‏(‏17‏)‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ‏(‏18‏)‏ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏لِنُخْرِجَ بِهِ‏}‏ أي بذلك الماء ‏{‏حَبًّا‏}‏ وهو ما يأكله الناس ‏{‏ونباتًا‏}‏ ما تنبته الأرض مما تأكله الأنعام‏.‏ ‏{‏وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا‏}‏ ملتفة بالشجر، واحدها لَفٌ وليف، وقيل‏:‏ هو جمع الجمع، يقال‏:‏ جنة لفَّا، وجمعها لُفٌ، بضم اللام، وجمع الجمع ألفاف‏.‏ ‏{‏إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ‏}‏ يوم القضاء بين الخلق ‏{‏كَانَ مِيقَاتًا‏}‏ لما وعد الله من الثواب والعقاب‏.‏ ‏{‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا‏}‏ زمرًا ‏[‏زمرًا‏]‏ من كل مكان للحساب‏.‏ ‏{‏وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ‏}‏ قرأ أهل الكوفة‏:‏ ‏"‏فُتِحَتِ‏"‏ بالتخفيف، وقرأ الآخرون بالتشديد، أي شُقَّت لنزول الملائكة ‏{‏فَكَانَتْ أَبْوَابًا‏}‏ أي ذات أبواب‏.‏ وقيل‏:‏ تنحلّ، وتتناثر حتى تصير فيها أبواب وطرق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20 - 23‏]‏

‏{‏وَسُيِّرَتِ الْجِبَال فَكَانَتْ سَرَابًا ‏(‏20‏)‏ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ‏(‏21‏)‏ لِلطَّاغِينَ مَآبًا ‏(‏22‏)‏ لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ‏}‏ عن وجه الأرض ‏{‏فَكَانَتْ سَرَابًا‏}‏ أي هباءً منبثًا لعين الناظر كالسراب‏.‏ ‏{‏إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا‏}‏ طريقًا وممرًا فلا سبيل لأحد إلى الجنة حتى يقطع النار‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏كانت مرصادا‏"‏ أي‏:‏ معدة لهم، يقال‏:‏ أرصدت له ‏[‏الشيء‏]‏ إذا أعددته له‏.‏

وقيل‏:‏ هو من رصدت الشيء أرصده إذا ترقبته‏.‏ ‏"‏والمرصاد‏"‏ المكان الذي يرصد الراصد فيه العدو‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏إن جهنم كانت مرصادا‏"‏ أي ترصد الكفار‏.‏

وروى مقسم عن ابن عباس‏:‏ أن على جسر جهنم سبع محابس يسأل العبد عند أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله، فإن ‏[‏أجابها‏]‏ تامة جاز إلى الثاني، فيسأل عن الصلاة، فإن ‏[‏أجابها‏]‏ تامة جاز إلى الثالث، فيسأل عن الزكاة، فإن ‏[‏أجابها‏]‏ تامة جاز إلى الرابع، فيسأل عن الصوم فإن جاء به تامًا جاز إلى الخامس، فيسأل عن الحج فإن جاء به تاما جاز إلى السادس، فيسأل عن العمرة فإن ‏[‏أجابها‏]‏ تامة جاز إلى السابع، فيسأل عن المظالم فإن خرج منها وإلا يقال‏:‏ انظروا فإن كان له تطوع أكمل به أعماله، فإذا فرغ منه انطلق به إلى الجنة‏.‏ ‏{‏لِلطَّاغِين‏}‏ للكافرين ‏{‏مَآبًا‏}‏ مرجعا يرجعون إليه‏.‏ ‏{‏لابِثِينَ‏}‏ قرأ حمزة ويعقوب‏:‏ ‏"‏لَبِثْينَ‏"‏ بغير ألف، وقرأ العامة ‏"‏لابثين‏"‏ ‏[‏بالألف‏]‏ وهما لغتان‏.‏ ‏{‏فِيهَا أَحْقَابًا‏}‏ جمع حُقب، والحُقب الواحد‏:‏ ثمانون سنة، كل سنة اثنا عشر شهرًا، كل شهر ثلاثون يوما، كل يوم ألف سنة‏.‏ روي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏"‏الأحقاب‏"‏ ثلاثة وأربعون حقبًا كل حقب سبعون خريفًا، كل خريف سبعمائة سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يومًا، كل يوم ألف سنة‏.‏

قال الحسن‏:‏ إن الله لم يجعل لأهل النار مدة، بل قال‏:‏ ‏"‏لابثين فيها أحقابا‏"‏ فوالله ما هو إلا ‏[‏إذا‏]‏ مضى حقب دخل آخر ثم آخر إلى الأبد، فليس للأحقاب عدة إلا الخلود‏.‏

وروى السدي عن مُرَّة عن عبد الله قال‏:‏ لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا، ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا‏.‏

وقال مقاتل بن حيان‏:‏ الحقب الواحد سبع عشرة ألف سنة‏.‏ قال‏:‏ وهذه الآية منسوخة نسختها ‏"‏فلن نزيدكم إلا عذابا‏"‏ يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24 - 29‏]‏

‏{‏لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا ‏(‏24‏)‏ إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ‏(‏25‏)‏ جَزَاءً وِفَاقًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا ‏(‏27‏)‏ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ‏(‏28‏)‏ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا‏}‏ روي عن ابن عباس‏:‏ أن البرد النوم، ومثله قال الكسائي و‏[‏قال‏]‏ أبو عبيدة، تقول العرب‏:‏ منع البرد، البردَ أي أذهب البرد النوم‏.‏ وقال الحسن وعطاء‏:‏ ‏"‏لا يذوقون فيها بردًا‏"‏ أي‏:‏ روحًا وراحة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏"‏لا يذوقون فيها بردًا‏"‏ ينفعهم من حر، ‏"‏ولا شرابًا‏"‏ ينفعهم من عطش‏.‏ ‏{‏إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏"‏الغساق‏"‏ الزمهرير يحرقهم ببرده‏.‏ وقيل‏:‏ صديد أهل النار، وقد ذكرناه في سورة ‏"‏ص‏"‏ ‏{‏جَزَاءً وِفَاقًا‏}‏ أي جزيناهم جزاء وافق أعمالهم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا‏}‏ لا يخافون أن يحاسبوا، والمعنى‏:‏ أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا بأنهم محاسبون‏.‏ ‏{‏وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا‏}‏ أي بما جاءت به الأنبياء ‏{‏كِذَّابًا‏}‏ تكذيبًا، قال الفراء‏:‏ هي لغة يمانية فصيحة، يقولون في مصدر التفعيل فِعَّال وقال‏:‏ قال لي أعرابي منهم على المروة يستفتيني‏:‏ الحلق أحب إليك أم القِصَّار‏؟‏‏.‏ ‏{‏وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا‏}‏ أي وكل شيء من الأعمال بيَّناه في اللوح المحفوظ، كقوله‏:‏ ‏"‏وكل شيء أحصيناه في إمام مبين‏"‏ ‏[‏يس - 12‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30 - 37‏]‏

‏{‏فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا ‏(‏30‏)‏ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ‏(‏31‏)‏ حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ‏(‏32‏)‏ وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ‏(‏33‏)‏ وَكَأْسًا دِهَاقًا ‏(‏34‏)‏ لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا ‏(‏35‏)‏ جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ‏(‏36‏)‏ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏فَذُوقُوا‏}‏ أي يقال لهم‏:‏ فذوقوا، ‏{‏فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا‏}‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا‏}‏ فوزًا ونجاةً من النار، وقال الضحاك‏:‏ متنزها‏.‏ ‏{‏حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا‏}‏ يريد أشجار الجنة وثمارها‏.‏ ‏{‏وَكَوَاعِب‏}‏ جواري نواهد قد تكعبت ثُدِيُّهُن، واحدتها كاعب، ‏{‏أَتْرَابًا‏}‏ مستويات في السن‏.‏ ‏{‏وَكَأْسًا دِهَاقًا‏}‏ قال ابن عباس والحسن وقتادة وابن زيد‏:‏ مترعة مملوءة‏.‏ وقال سعيد بن جبير ومجاهد‏:‏ متتابعة‏.‏ قال عكرمة‏:‏ صافية‏.‏ ‏{‏لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا‏}‏ باطلا من الكلام ‏{‏وَلا كِذَّابًا‏}‏ تكذيبًا، لا يكذب بعضهم بعضًا‏.‏ وقرأ الكسائي ‏"‏كذابا‏"‏ بالتخفيف مصدر ‏[‏كاذب‏]‏ كالمكاذبة، وقيل‏:‏ هو الكذب‏.‏ وقيل‏:‏ هو بمعنى التكذيب كالمشدد‏.‏ ‏{‏جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا‏}‏ أي جازاهم جزاء وأعطاهم عطاء ‏"‏حسابًا‏"‏ أي‏:‏ كافيًا وافيًا، يقال‏:‏ أحسبت فلانًا، أي أعطيته ما يكفيه حتى قال حسبي‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ ‏"‏عطاء حسابا‏"‏ أي كثيرًا وقيل‏:‏ هو جزاء بقدر أعمالهم‏.‏ ‏{‏رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ‏}‏ قرأ أهل الحجاز، وأبو عمرو‏:‏ ‏"‏ربُّ‏"‏ رفع على الاستئناف و‏"‏الرحمن‏"‏ خبره‏.‏ وقرأ الآخرون بالجر اتباعًا لقوله‏:‏ ‏"‏من ربك‏"‏ وقرأ ابن عامر، وعاصم، ويعقوب‏:‏ ‏"‏الرحمنِ‏"‏ جرًا اتباعًا لقوله‏:‏ ‏"‏رب السماوات ‏"‏ وقرأ الآخرون بالرفع، فحمزة والكسائي يقرآن ‏"‏ربِّ‏"‏ بالخفض لقربه من قوله‏:‏ ‏"‏جزاءً من ربك‏"‏ ويقرآن ‏"‏الرحمنُ‏"‏ بالرفع لبعده منه على الاستئناف، وقوله‏:‏ ‏{‏لا يَمْلِكُونَ‏}‏ في موضع رفع، خبره‏.‏

ومعنى ‏{‏لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا‏}‏ قال مقاتل‏:‏ لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ لا يملكون شفاعة إلا بإذنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ‏}‏ أي في ذلك اليوم ‏{‏وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا‏}‏ واختلفوا في هذا الروح، قال الشعبي والضحاك‏:‏ هو جبريل‏.‏

وقال عطاء عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏الروح‏"‏ ملك من الملائكة ما خلق الله مخلوقًا أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام وحده صفا وقامت الملائكة كلهم صفًا واحدا، فيكون عظم خلقه مثلهم‏.‏

وعن ابن مسعود قال‏:‏ الروح ملك أعظم من السماوات ومن الجبال، ومن الملائكة وهو في السماء الرابعة، يسبح كل يوم اثني عشر ‏[‏ألف‏]‏ تسبيحة، يُخلق من كل تسبيحة ملك يجيء يوم القيامة صفا وحده‏.‏

وقال مجاهد، وقتادة، وأبو صالح‏:‏ ‏"‏الروح‏"‏ خلق على صورة بني آدم ليسوا بناس يقومون صفًا والملائكة صفًا، هؤلاء جند وهؤلاء جند‏.‏

وروى مجاهد عن ابن عباس قال‏:‏ هم خلق على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا معه واحد منهم‏.‏

وقال الحسن‏:‏ هم بنو آدم‏.‏ ورواه قتادة عن ابن عباس، وقال‏:‏ هذا مما كان يكتمه ابن عباس‏.‏

‏"‏والملائكة صفا‏"‏ قال الشعبي‏:‏ هما سماطا رب العالمين، يوم يقوم سماط من الروح وسماط من الملائكة‏.‏

‏{‏لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا‏}‏ في الدنيا، أي حقًا‏.‏ وقيل‏:‏ قال‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39 - 40‏]‏

‏{‏ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا ‏(‏39‏)‏ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ‏}‏ الكائن الواقع يعني يوم القيامة ‏{‏فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا‏}‏ مرجعًا وسبيلا بطاعته، أي‏:‏ فمن شاء رجع إلى الله بطاعته‏.‏ ‏{‏إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا‏}‏ يعني العذاب في الآخرة، وكل ما هو آت قريب‏.‏ ‏{‏يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ‏}‏ أي كل امرئ يرى في ذلك اليوم ما قدم من العمل مثبتًا في صحيفته، ‏{‏وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا‏}‏

قال عبد الله بن عمرو‏:‏ إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مدّ الأديم، وحشرت الدواب والبهائم والوحوش، ثم يجعل القصاص بين البهائم حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء تنطحها، فإذا فرغ من القصاص قيل لها‏:‏ كوني ترابًا، فعند ذلك يقول الكافر‏:‏ يا ليتني كنت ترابًا‏.‏ ومثله عن مجاهد‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ يجمع الله الوحوش والهوام والطير فيقضي بينهم حتى يُقتصَ للجماء من القرناء، ثم يقول لهم‏:‏ أنا خلقتكم وسخرتكم لبني آدم وكنتم مطيعين إياهم أيام حياتكم، فارجعوا إلى الذي كنتم، كونوا ترابًا، فإذا التفت الكافر إلى شيء صار ترابًا، يتمنى فيقول‏:‏ يا ليتني كنت في الدنيا في صورة خنزير، وكنت اليوم ترابًا‏.‏

وعن ‏[‏أبي الزناد عبد الله بن ذكوان‏]‏ قال‏:‏ إذا قضى الله بين الناس وأمر أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، وقيل لسائر الأمم ولمؤمني الجن عودوا ترابًا فيعودون ترابًا، فحينئذ يقول الكافر‏:‏ يا ليتني كنت ترابا‏.‏ وبه قال ليث بن ‏[‏أبي‏]‏ سليم، مؤمنو الجن يعودون ترابًا

وقيل‏:‏ إن الكافر هاهنا إبليس وذلك أنه عاب آدم وأنه خلق من التراب وافتخر بأنه خلق من النار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه المؤمنون من الثواب والرحمة، وما هو فيه من الشدة والعذاب، قال‏:‏ يا ليتني كنت ترابا‏.‏ قال أبو هريرة فيقول‏:‏ التراب لا ولا كرامة لك، من جعلك مثلي‏؟‏‏.‏